لا تزال الذاكرة الفلسطينية حافلة بالمئات من المواقف التاريخية المؤلمة التي حفرت أخاديد قاسية على وجه القضية الفلسطينية وجبينها الذي لم ينحن على الإطلاق رغم عواصف التآمر وزوابع الإجرام .
ففي مثل هذا اليوم وقبل ثلاثة وتسعين عاماً ، وبشكل دقيق في الثاني من نوفمبر لعام ألف وتسعمائة وسبعة عشر كانت فلسطين وشعبها الأبي العربي المسلم على موعد مع جريمة كانت أماً لجرائم عظيمة ومجازر كبيرة حلت بشعب فلسطين إنه وعد بلفور.
هذا الوعد الذي أعطى فيه من لا يملك من لا يستحق ، وعد منحت فيه الدولة الاستعمارية بريطانيا حقاً لليهود بوطن قومي على الأرض الطاهرة المقدسة الموقوفة للمسلمين ’ فلسطين ’ .
بدايات قديمة
وترجع البدايات الأولى لفكرة إنشاء وطن خاص باليهود، يجمع شتاتهم ويكون حارسًا على مصالح دول (أوروبا) الاستعمارية في الشرق إلى ما قبل الحملة الفرنسية على مصر، وتجلى ذلك بوضوح في خطاب ’نابليون’ الذي وجهه إلى يهود الشرق؛ ليكونوا عونًا له في هذه البلاد.
وقد وجدت هذه الدعوة صدى لها لدى كثير من اليهود، فقد كتب المفكر اليهودي (موسى هس) يقول: إن ’فرنسا’ لا تتمنى أكثر من أن ترى الطريق إلى ’الهند’ و’الصين’ وقد سكنها شعب على أهبة الاستعداد لأن يتبعها حتى الموت.. فهل هناك أصلح من الشعب اليهودي لهذا الغرض؟!
ومع نهايات القرن التاسع عشر انتقلت فكرة الصهيونية التي تزعمها ’تيودور هرتزل’ مؤسس الحركة الصهيونية – من مرحلة التنظير إلى حيّز التنفيذ، وذلك بعد المؤتمر الصهيوني الأول الذي عقد في بازل عام (1314هـ : 1897م)، وتجلى ذلك بوضوح في سعي الصهيونيين الدائب للحصول على تعهد من إحدى الدول الكبرى بإقامة وطن قومي يهودي توجت بهذا الوعد المشئوم.
لقد كان التفكير يتجه في البداية إلى منح اليهود وطنًا في شمال أفريقيا، ثم تلا ذلك تحديد منطقة العريش، ولكن هذه المحاولات باءت بالفشل.
أفريقيا لا .. فلسطين نعم
فاتجه تفكير اليهود إلى ’فلسطين’، وسعوا للحصول على وعد من ’تركيا’ – صاحبة السيادة على ’فلسطين’ – لإنشاء وطن لليهود فيها، وسعى ’هرتزل’ إلى مقابلة السلطان ’عبد الحميد الثاني’، وحاول رشوته بمبلغ عشرين مليون ليرة تركية، مقابل الحصول على فلسطين.
مواقف العزة
لكن السلطان رفض وقال: ’لا أقدر أن أبيع ولو قدمًا واحدة من البلاد؛ لأنها ليست لي، بل لشعبي، لقد حصل شعبي على هذه الإمبراطورية بإراقة دمائهم، وفضلوا أن يموتوا في ساحة القتال، إن الإمبراطورية ليست لي، بل للشعب التركي، ولا أستطيع أن أعطي أحدًا أي جزء منها، ليحتفظ اليهود ببلايينهم، فإذا قسمت الإمبراطورية فقد يحصل اليهود على فلسطين بدون مقابل، إنما لن تقسم إلا جثثنا، ولن أقبل بتشريحنا لأي غرض كان’.
وبعد إتفاقية سايكس بيكو عام 1916 م والتي قسمت البلاد العربية والإسلامية عمدت بريطانيا إلى بسط نفوذها على جزء مهم من هذه البلاد، وسعت في نفس الوقت إلى تلبية رغبة حاييم وايزمن والصهيونية العالمية بإنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين و التي اتخذت شكل ’تصريح’ و الذي عرف باسم ’ وعد بلفور’.
ويناقض الوعد, مع ذاته، حين قال بضمان حقوق السكان الأصليين, فيما يشير واقع الحال إلى أن الصهاينة جسدوا ذلك الوعد في عامي 1948 و 1967 حين احتلت الأراضي الفلسطينية والعربية وهجرت السكان الأصليين وصادرت حقوقهم , بل وحولت احتلالها إلى قضية مطلبية تطورت عبر التاريخ.
ومنذ ذلك الحين والشعب الفلسطيني يتجرع المرارة ويشرب من كأس الإجرام ويغوص في حمامات الدم نتيجة لهذا الوعد المشئوم والظالم , والذي جلب لهذه الأرض المباركة ولهذا الشعب الطيب المسالم أناساً هم أحقر من دب على الثرى وأنجس من تنفس الهواء .
نظرة قرآنية
كيف لا وهم من قتل الأنبياء وأشبعوا الدنيا فساداً وإفساداً ، وتآمروا على الدنيا بأسرها لأجل تحقيق مصالحهم وأهوائهم .
ولكنهم اليوم يجتمعون لحتفهم وشعبنا لهم بالمرصاد وصدق الله القائل : ’فإذا جاء وعد الآخرة ليسوءوا وجوهكم وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة وليتبروا ما علوا تتبيرا ’
ويقو كثير من العلماء أننا نحن نعيش الإفساد الثاني لليهود إذا علمنا أن إفساد اليهود الأول كان في المدينة، وأن المسلمين هم الذين قضوا على ذلك الإفساد، نعلم أن الكَرّة تعود لليهود في الإفساد الثاني على الأجيال اللاحقة من المسلمين، وهي الأجيال التي تعيش في هذا الزمان .
ثم رددنا لكم الكرة عليهم’، ولم تكن لليهود كرة على الأقوام السابقين الذين حاربوهم. ’ وأمددناكم بأموال وبنين…..’ أي أن قوة اليهود ليست ذاتية بل خارجية، أمدهم الله بها ليقضي عليهم، ويتم بوسيلتين هما الأموال والبنين، وهذا ما نراه واضحاً في أيامنا هذه، فالغرب يمدهم بالمال ويسهل هجرة اليهود إلى فلسطين.
’ جئنا بكم لفيفاً…..’ لقد مضى على اليهود أكثر من قرن وهم يأتون ملتفين في هجرات متتابعة إلى فلسطين، ولن يتوقف ذلك حتى يتم تجميع كل اليهود في هذه المنطقة تمهيداً للقضاء عليهم. ’ وجعلناكم أكثر نفيراً…’ أي أن الله عز وجل سيجعل اليهود الأكثر أعواناً ومؤيدين، وهذا يبدو واضحاً من مواقف العالم معهم.
’ إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم…’ هذا رد على زعم تفرد اليهود على البشرية، وتفضيلهم على باقي الناس، فهي أوهام اخترعوها ولا أساس لها. هذا هو الإفساد الأخير لليهود.
نص الوعد المشئوم
عزيزي اللورد ’روتشلد’
يسرني جدًّا أن أبلغكم بالنيابة عن حكومة صاحب الجلالة التصريح التالي الذي ينطوي على العطف على أماني اليهود والصهيونية، وقد عرض على الوزارة وأقرّته:
’إن حكومة صاحب الجلالة تنظر بعين العطف إلى تأسيس وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين، وستبذل غاية جهدها لتسهيل تحقيق هذه الغاية، على أن يكون مفهومًا بشكل واضح أنه لن يؤتى بعمل من شأنه أن ينتقص الحقوق المدنية والدينية التي تتمتع بها الطوائف غير اليهودية المقيمة الآن في فلسطين، ولا الحقوق أو الوضع السياسي الذي يتمتع به اليهود في البلدان الأخرى’.
وسأكون ممتنًا إذا ما أحطتم اتحاد الهيئات الصهيونية علمًا بهذا التصريح.
المخلص..آرثر بلفور