عبثا تحاول السيدة المقدسية أمل سمرين التخفيف من وطأة قرار محكمة الصلح الإسرائيلية القاضي بإمهالها وأبنائها تسعين يوما لإخلاء منزلهم في بلدة سلوان لصالح المستوطنين.
يتنقل بصرها بين أحفادها الذين قطعوا حديثنا معها مرارا طلبا للنقود لشراء الحلوى من البقّالة المجاورة أو لسؤالها عن مصيرهم بعد الإخلاء القسري.
تصمت للحظات ثم يرتفع صوتها “الله أكبر.. لا يوجد عدل في هذا الزمان، قلتُ للقاضية الإسرائيلية في إحدى جلسات المحكمة إنني أعيش في هذا المنزل منذ أربعين عاما، وأريد أن تخرج جنازتي منه.. لكن إذا كان غريمي القاضي فلمن أشكو؟”.
أصل المشكلة
بداية الحكاية تعود لأربعينيات القرن الماضي، عندما بنى الجد الأكبر للعائلة الحاج موسى سمرين المنزل على أرضه التي تبعد عشرات الأمتار عن المسجد الأقصى المبارك من الجهة الجنوبية، بالإضافة لدونمين من الأرض الخالية أمام المنزل التي اهتم بزراعتها وجني ثمارها على مدار عقود.
نزح أبناء الحاج موسى عام 1967 إلى الأردن، فعاش معه ابن أخيه في المنزل واشتراه منه قبل موته، وانتقلت الملكية بشكل تلقائي للابن محمد سمرين فتزوج أمل وعاشا فيه، وأنجبا سبعة من الأبناء.
موقع إستراتيجي
طوال هذه السنوات كانت أطماع المستوطنين تزداد للاستيلاء على المنزل لموقعه الإستراتيجي الذي يدّعون أنه يقع ضمن ما تسمى مدينة داود، لكن العائلة لم تكن تعلم شيئا عن ذلك.
سلطات الاحتلال وبمجرد وفاة الحاج موسى سمرين عام 1983، حولت ملكية العقار لـ”حارس أملاك الغائبين” بادعاء أن أبناءه يعيشون في الأردن وليس له ورثة في البلاد، وتم ذلك دون إبلاغ العائلة حتى وصلتهم ورقة إخلاء من المنزل عام 1991، علما بأن العقار لم يخلُ يوما من السكان الذين ورثوا العقار عن الجد موسى.
استأنفت عائلة سمرين القرار وقدمت أوراقا تثبت شراء محمد زوج أمل المنزل من الحاج موسى، واستمرت المحاكم حتى تلقت العائلة أمرا آخرا بالإخلاء عام 2011، ولم تتوقف الجلسات واعتبرت القاضية أن العائلة محمية بالعقار لأن محمد زوج أمل ما زال على قيد الحياة، وبعد وفاته عام 2015 بدأت معركة قضائية جديدة تتضمن تفاصيل كثيرة، كان آخرها قرارا جديدا بالإخلاء صادرا عن محكمة الصلح في القدس.
نقل الملكية
خلال ثلاثة عقود من مقارعة العائلة للمستوطنين في المحاكم، تم نقل ملكية العقار من حارس أملاك الغائبين إلى “سلطة التطوير الإسرائيلية”، ثم إلى شركة “هيمونتا” التي تحاول اليوم إخلاءه.
نبشت الخمسينية أمل سمرين -خلال استقبالها للجزيرة نت في عقارها المهدد بالإخلاء- تفاصيل السنوات الهادئة التي عاشتها وأسرتها فيه، قائلة إنها كانت تزرع الكثير من الخضروات سنويا في الأرض المقابلة لمنزلها بالإضافة لأشجار الفواكه، لكن كل ذلك اندثر بمجرد هجوم عشرات المستوطنين على الأرض عام 1991 قادمين من الحي اليهودي في البلدة القديمة بهدف الاستيلاء عليها.
دافعت أمل عن أرضها باستماتة وطردت المستوطنين، ثم اعتصم المقدسيون في الأرض المهددة بالمصادرة مع وجهاء القدس وعلى رأسهم الراحل فيصل الحسيني، لكن ذلك الصمود انتهى في ليلة حالكة الظلمة اقتحمت بها القوات الخاصة منزل عائلة سمرين وأخبرتها أن الأرض صودرت وبوشر بالتحضير لإقامة “مدينة داود” عليها.
عقود من القلق
خسرت أمل الأرض التي ارتبطت بها على مدار عقود، وخاضت وأسرتها معارك قضائية للحفاظ على العقار، ورغم الانتكاسات والانتصارات التي تخللت هذه المعارك فإنها تشعر أن قرار الإخلاء الأخير أكثرها خطرا.
“كل دقيقة أنتفض خوفا منذ وصلنا قرار الإخلاء.. قسمت منزلي لثلاثة منازل تؤويني وثلاثة من أبنائي وأسرهم.. نعيش في غرف ضيقة تحتاج لترميم ونُمنع من ذلك، لكننا صامدون ويمكننا احتمال الأسوأ في سبيل البقاء في منزلنا”.
يعلو صوتها وينخفض أثناء كلامها عن سنوات شبابها التي قضتها متفانية في الحفاظ على منزلها وفي المواظبة على الذهاب مشيا على الأقدام للمسجد الأقصى المبارك، وبينما تستفيض بالشرح تنظر لجدران منزلها وكأنها تودعها ثم تقول: لا، لا، لن أترك منزلي.. أحلم أن أكسب القضية لصالحنا وحينها سأصعد إلى سطح المنزل حاملة علم فلسطين في يميني وراية بيضاء في يساري.. سألوح بهما وأغني “يا دار العز يا دارنا”.
إيذاء المستوطنين
الأحفاد يدخلون إلى المنزل ويخرجون إلى الفناء المطل على المسجد الأقصى، لكن الحفيدة ديالا سمرين (15 عاما) لم تبرح مكانها وهي تستمع باهتمام شديد لكل ما قالته جدتها، وأضافت أن خبر الإخلاء وقع عليها كالصاعقة قبل يومين عندما عادت من مدرستها في البلدة القديمة مشيا على الأقدام للمنزل.
تقول “المستوطنون حولنا لا يتوقفون عن إيذائنا، وفي الليلة التي صدر بها قرار الإخلاء أقاموا احتفالات استمرت حتى ساعات الصباح نكاية بنا، العيش بجوارهم جحيم والإخلاء من المنزل جحيم أيضا، خياران أحلاهما مر”.
والد ديالا أحمد سمرين أوضح للجزيرة نت أن عقار العائلة الذي تنوي الجمعيات الاستيطانية إخلاءه تبلغ مساحته 750 مترا مربعا، يسكنه 15 فردا معظمهم من الأطفال، وأضاف أن العائلة الآن بصدد تقديم استئناف للمحكمة المركزية على قرار الإخلاء، ولن تتقاعس في الدفاع عن حقها بالعقار رغم الأطماع الكبيرة فيه كونه يقع في منتصف المشروع الاستيطاني “مدينة داود” ويقطع تواصله.
ورغم المشاحنات شبه اليومية مع المستوطنين الذين يعيشون حولهم أو مع الذين يدخلون للمشروع الاستيطاني يوميا، فإن أحمد ووالدته وأشقاءه قرروا عدم التنازل عن تقديم الاستئناف ليقينهم من أنهم أصحاب الحق في العقار.
يقول أحمد “يمر المستوطنون ويتعمدون النظر إلى داخل المنزل بشكل استفزازي، ووقعت بيننا وبينهم عدة مشادات كانت نتيجة أحدها حبس شقيقي وتغريمه 30 ألف شيكل، لضربه مستوطنا تعدى عليه لفظيا وتطاول على حقنا في البقاء بمنزلنا”.
غادرنا المنزل بعد بدء تجمع أفراد العائلة في الفناء الخارجي حيث يجتمعون يوميا ويتسامرون في الساحة المطلة على المسجد الأقصى وسور القدس التاريخي، خرجنا من الباب الرئيسي وصوت أمل يصدح وهي تحثّ الأحفاد على إغلاقه خلفنا خوفا من أي اعتداء أو تطاول محتمل من المستوطنين.
المصدر : الجزيرة